باليته..وداد
الأُورفه لي
ان دور وداد الاورفلي , الذي تجلى بأسطع صوره , في الثمانينات
والتسعينات من القرن الماضي , يتخطى دورها كفنانة تشكيلية بارزة في
الساحة التشكيلية العراقية , فقد كانت السيدة الاورفلي بحق احد
الرموز الثقافية
للبلد فضلا عن الى مشاركاتها في اغلب التظاهرات التشكيلية العالمية
المقامة في بغداد, والنشاطات الفنية في الدول العربية, فان القاعة
التي تسمت باسمها قاعة الاورفلي , هي القاعة الاولى في العراق غير
المملوكة للدولة والتي مارست ابان تلك الفترة دورا رياديا في
الحركة التشكيلية العراقية. كانت الافتتاحات التي تقام للمعارض
الشخصية والجماعية من قبيل معرض الصيف والربيع والذي كان يقام
سنويا , وكذلك العروض المسرحية والمحاضرات والندوات , كانت كلها
احداثا ثقافية بالغة الاهمية. ولدت في بغداد عام 1929. درست ثلاث
سنوات كلية البنات في بيروت/ سنة واحدة في كلية التحرير خدمة
اجتماعية/اربع سنوات معهد الفنون الجميلة، بغداد/ اربع سنوات في
كلية التحرير. عضو نقابة الفنانين وجمعية الفنانين العراقية .
شاركت في معرض نادي المنصور عام 1957 وفي معظم معارض جمعية
الفنانين العراقية حتى عام 1962 .عاشت مدة 18 سنة خارج العراق
متنقلة بين اقطار الشرق والغرب، حيث اطلعت عن كثب على مدارسها
الفنية.
اقامت معارض عديدة في الخارج
، اولها في بون 1964 ، ثم في نيويورك سنة 1966، أعقب ذلك معرضان في
الاردن في سنتي 1968 ، 1979 ومعرض مشترك مع الفنانة موراك مكاوي في
لندن سنة 69 ، وآخر معارضها (منمنمات في التراث العربي )المقام في
بغداد سنة 1980، كما شاركت في معظم المعارض الفنية الجماعية من عام
1980 الى 1983. مستمرة في اقامة المعارض الفنيه لحد وقتنا الحاضر.
أسست وتمتلك قاعة الاورفلي للفنون التشكيلية في بغداد عام 1983 وقد
لاقت نجاحاً كبيراً على مدى السنوات بدعمها الكامل للفنانين في
العراق. وقد تم تكريم الفنانة وداد الاورفلي بقلادة العنقاء
الذهبية الدولية وذلك تكريما لنشاطها الفني الابداعي في مجال
التشكيل قلدها اياها رئيس المهرجان القاص محمد رشيد، هذا التكريم
الذي اقيم في عمان وتخلله حفل موسيقي لمقطوعات من الفلكور العراقي
وعزفت فرقة ثلاثي العود الحاناً شجية من الفن العراقي الاصيل في
حين ألقت الاورفلي قراءات شعرية لقصيدة(الله عليك) التي قامت
بتأليف كلماتها وتلحينها.
هذا التكريم جاء لان الفنانة
علم من اعلام العراق فهي الى جانب كونها فنانة تشكيلية، تشارك
اليوم بفن من نوع آخر هو العزف والتلحين. في المحلة التي حملت اسم
الاسرة (الاورفلية) في الباب الشرقي ببغداد، وفي البيت التي تلاقفت
جدرانه تلويحات الشناشيل البغدادية، فضلت (وداد الاورفلي) عام 1929
ان تفتح عينيها مولودة تتطلع الى الحزوز المزدانة بالنتوءات
الزجاجية الملونة، وهي تلتقي فوق تخطيطات خشبية ، تتواصل لتكون
كتلة مترفة من الانشاء الزخرفي الدقيق. هناك.. تطايرت احلام الطفلة
وداد، متأملة موشورات اللون، وظلال الصنعة التي ابدعت موضوعها،
لتصطف شاهدا يضفي على المكان خصلة من الالفة ، لم تزل عالقة في
الذاكرة. في ذلك البيت، بين اخوة لها، من اسرة مرموقة بالثراء
والثقافة، تلفظت (وداد) مزاجها ، فكانت لمسة الاب (مكي الاورفلي)
القاضي المتمرس والانسان المثالي، قوة منحت الابنة، حرية تدرك حيز
التزامها .. فانبرى فاتحا لابنته - بعد ان تنبه لشعورها المرهف -
دروب التشكل الحر، فصاغت له - بعد ان استلا جلسة هادئة توسطها
(البيانو) - اول مشهد تظاهر بحرارة الوجدان والعاطفة. من تلك
اللحظة، التي امتزجت فيها حرارة الاصابع بخفة ارتمائها فوق سلالم
(البيانو) تدافع هاجس التواصل ليجد ظلاله مثالا متدفقا ، تنبهت له
(وداد) فصار بعد سنوات ، نبرة تحمل ذات الحيوية في اللوحة التي
ترسمها.
بين تلك الاجواء، تكونت
شخصية الفتاة، التي طالما انشدت لذلك الفيض الاخاذ، وهي تستمع الى
انغام الايطالي (دوكاني) وهو يعطيها دروسا في الموسيقى.. لكنها
ادركت بعد سنوات من ذلك، ان ذاك الفيض ذاته، صار يتقلب باتجاه اخر،
قادها الى نزوع تملَّكها كلية، فبادرت اصابعها وهي تتحرك مرتجفة
على قطعة خشب نضرة، ترسم خطوطا ونقوشا تذكّرها بشناشيل البيت الذي
قضت طفولتها بين زواياه.. ثم صارت ترسم مرحها فوق تلك الاسطوانات
القديمة، المتراصة فوق رفوف المكتبة، لينتهي بها الحال الى ان تجمع
تلك القطع التي تغطت برسوماتها المتواضعة، لتعرضها في قاعة الملك
فيصل الثاني.. متبرعة بريعها الى احدى الجمعيات الانسانية.
منذ تلك اللحظة.. وكما تقول
الفنانة (وداد الاورفلي): احتدمت في نفسي رغبة لم اعد اقوى على
صدها.. فصحت.. عليّ ان ارسم. وهكذا وجدت نفسها بين الاعوام من 1955
حتى 1958، طالبة تصغي بلهفة، لدروس استاذها الاول الفنان الراحل
خالد الجادر.. هناك في مرسم كلية الملكة عالية للبنات، بدأت (وداد)
تستحضر نموذجها، وهي تحتمي بملاحظات معلمها (الجادر) الذي ظل حاضرا
معها في كل شيء حتى هذه اللحظة. وفي ذات المرسم، تعرفت الى زميلها
الفنان الراحل (كاظم حيدر) .. فتكشفت امامها، رغبة العمل معا لتمتد
الى ساعات متواصلة.. فترسم .. ثم ترسم.. ومن بعدها تتأمل برفق
ملاحظات استاذها (خالد الجادر) . ولكي تتسع الكفاءة، وتتأنق
المهارة، درست فن الرسم اكثر من عامين على يد الراحل (عطا صبري) ..
ثم عامين اخرين ، على يد الرائد الكبير (فائق حسن).. فتلونت
الذائقة، واكتست اجزاؤها مرونة وعنفوانا. ولم تتوان، اذ ما لبثت
بعد ذلك، ان تشبثت بكرسيّها طالبة في معهد الفنون الجميلة..
لتتباهى - وما تزال - بانها درست الرسم على يدي الفنانين القديرين:
اسماعيل الشيخلي وفرج عبو.. وفن النحت على يد الفنان الراحل عبد
الرحمن الكيلاني.. في حين درست فن الخزف على يد القبرصي (فالنتينوس
كرالمبوس). كما حظيت بفرصة الاستماع الى الرائد (جواد سليم) وهو
يوجّه طلابه بحماسة، فتعلمت منه هاجس الارتباط بالهوية، والانشداد
الى الجذور والموروث. لم تنظر (وداد الاورفلي) الى فن الرسم، وهي
التي زاولته على مدى سنوات تجربتها المترامية، الا مرفأ تتبدى فيه
تفاصيل مرهفة، تتطلب ذهنية قادرة على المزاوجة بين الحافز
والابتكار، لذلك هي تقول: (يجب الا ينفصل الفنان عن قضايا امته..
فالفنان له دور في الحياة.. دور واضح المعالم، كأي سياسي او موظف
او عامل في مصنع، عليه رسالة يجب ان يؤديها، بصفته مواطنا وفردا في
امة تتطور وتسعى الى التقدم، فتقع عليه مسؤولية توضيح مشاعر الناس،
وتوجيه احاسيسهم والتعبير عنها بصورة فنية).
من هذا الافق، تيقنت (وداد
الاورفلي) قدرة الفن على الحوار، فكانت لوحاتها منذ عام 1957 -
مشاركة في معرض بغداد للرسم والنحت الذي اقيم في قاعة المنصور -
حتى عام 1975، مشهدا ينفتح على قضايا عدة، ويتنقل بين مراحل
اسلوبية متنوعة: فمن الواقعية المسهبة، الى الانطباعية الحارة ، ثم
التجريد وتأويلاته ومن بعده التكعيبية وانثيالات المنظور اللوني..
صاغت الفنانة (وداد الاورفلي) مفرداتها ، التي شكّلت خطابها
الابداعي، ليكون مفصلا لايتخطى الجوهر، بل اننا نجد فنها يتدافع
ليصل الى الناس من خلال تعبيرية متمردة.. عن ذلك تقول الفنانة
وداد: (عشت مع النازحين في خيامهم.. ومع الاطفال المحروقين
بالنابالم ومع الاسر المشردة، التي كانت تعبر الجسر المهدم.. فرسمت
ذلك في لوحات لتكون سجلا تاريخيا ناطقا). حينها كانت لوحاتها مخاضا
مثاليا، يتفحص الواقع ويخترقه، ثم يعود ليتشكل فيه.. كانت لوحاتها
في تلك الفترة، رهينة بالقضية والموقف..
فكانت القضية الفلسطينية،
اقرب القضايا الى نفسها، واعمقها تأثيرا فيها. وتضيف: (خلال فترة
التوقف، انصرفت الى اعمال اخرى، لكني لم اجد فيها ما اطمح اليه، او
كان يختلج في نفسي من احاسيس غامضة، كنت اجرب الالوان والاشكال..
ومرة وجدت نفسي ارسم وجها انسانيا، لونته ، ثم رسمت موضوعات
بغدادية، وشخصيات.. ركزت على النقوش في القباب والاهلة، كانت
تجذبني، ثم ما كان في الملابس والجدران والاشجار.. هنا امسكت
بالخيط الذي قاد انتباهي الى عالم المنمنمات).. كان ذلك في
اسبانيا، منتصف سبعينيات القرن الفائت، عندما كانت بصحبة زوجها
حميد العزاوي الذي كان يعمل موظفا دوبلوماسيا في سفارتنا هناك..
رسمت (وداد) لوحة تقاسم انشاءها القلم والفرشاة.. تلك اللوحة التي
قادت الفنانة (وداد الاورفلي) الى مرحلة جديدة في الرسم والاسلوب
والتكنيك والموضوع.. حيث صار الحلم والمدينة المتخيلة/ الاسطورة،
الوهج الاكثر فيضا بين الوانها.. فصارت تختزل مفرداتها المبتدعة
بصبغة الفنتازيا، بنية وصياغة. بهذا الوصف، افترضت (وداد الاورفلي)
لوحتها الجديدة، مظهرا تتوسده الاهلّة والاقواس والقباب والمآذن
والنخيل.. مدن قناعها يستحضر التراث ومدوناته الاثيرة.. بواباتها
مشرعة تقودنا الى الامل.